الإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين (الحجرات : 9-10

الإصلاح بين الطائفتين المتنازعتين

الحجرات: (9-10)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ9 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 10

سبب النزول

  1. روى المعتمر بن سليمان عن أنس بن مالك قال: قلت: يا نبي الله، لو أتيت عبدالله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمار وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك. فغضب لعبدالله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية.
  2. وقال مجاهد: نزلت في الأوس والخزرج. و قال: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية.
  3. ومثله عن سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه، فأنزل الله هذه الآية فيهم.
  4. قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة، لكثرة عشيرته. ودعاه الآخر إلى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال والسيوف، فنزلت هذه الآية.
  5.  قال الكلبي: نزلت في حرب سُمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فاقتتل الأوس والخزرج حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يصلحوا بينهما.
  6. قال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل من غير الأنصار، فتخاصمت مع زوجها، أرادت أن تزور قومها فحبسها زوجها وجعلها في علية لا يدخل عليها أحد من أهلها، وأن المرأة بعثت إلى قومها، فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، فخرج الرجل فاستغاث أهله فخرج بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وتجالدوا بالنعال، فنزلت الآية

التفسير

من تفسير الجلالين

(وإن طائفتان من المؤمنين) الآية نزلت في قضية هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا ومر على ابن ابي فبال الحمار فسد ابن ابي أنفه فقال ابن رواحة والله لبول حماره أطيب ريحا من مسكك فكان بين قوميهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف (اقتتلوا) جمع نظرا إلى المعنى لأن كل طائفة جماعة وقرىء اقتتلا (فأصلحوا بينهما) ثني نظرا إلى اللفظ (فإن بغت) تعدت (إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء) ترجع (إلى أمر الله) الحق (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل) بالانصاف (وأقسطوا) إعدلوا (إن الله يحب المقسطين)

من التفسير الميسر

وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا فأصلحوا -أيها المؤمنون- بينهما بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرضا بحكمهما, فإن اعتدت إحدى الطائفتين وأبت الإجابة إلى ذلك, فقاتلوها حتى ترجع إلى حكم الله ورسوله, فإن رجعت فأصلحوا بينهما بالإنصاف, واعدلوا في حكمكم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله, إن الله يحب العادلين في أحكامهم القاضين بين خلقه بالقسط. وفي الآية إثبات صفة المحبة لله على الحقيقة, كما يليق بجلاله سبحانه.

أحكام اقتتال المسلمين و الصلح بينهم من تفسبر القرطبي بتصرف

«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا». والطائفة تتناول الرجل الواحد والجمع والأثنين، فهو مما حمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وفي قراءة عبدالله «حتى يفيؤوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط» .

«فأصلحوا بينهما» بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما. «فإن بغت إحداهما على الأخرى» تعدت ولم تجب إلى حكم الله وكتابه.والبغي: التطاول والفساد. " قاتلوا التي تبغي "  أمر بالقتال. وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه المقامات،. وصوب ذلك علي بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.«حتى تفيء إلى أمر الله» أي ترجع إلى كتابه. «فإن فاءت» أي فإن رجعت «فأصلحوا بينهما بالعدل» أي احملوهما على الإنصاف. «وأقسطوا» أقسطوا أيها الناس فلا تقتتلوا. وقيل: أقسطوا أي اعدلوا. «إن الله يحب المقسطين» أي العادلين المحقين.

قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا.

 

1. إذا كان الاقتتال على سبيل البغي منهما جميعا:فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما.

2. أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل.

فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشد الحق.

 فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضرحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. والله أعلم.

في الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين. وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقوله عليه السلام: «قتال المؤمن كفر» . ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك وقد قاتل الصديق رضي الله عنه: من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مُولٍّ، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «تقتل عمارا الفئة الباغية» . وقوله عليه السلام في شأن الخوارج: «يخرجون على خير فرقة أو على حسين فرقة» ، والرواية الأولى أصح، لقوله عليه السلام: «تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق» . وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إماما، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتال واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح، لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة.

قوله تعالى: «فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل» ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل. وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي. وهذا أصل في المصلحة.

إن حكمة الله تعالى في حرب الصحابة التعريف منهم لأحكام قتال أهل التأويل، إذ كان أحكام قتال أهل الشرك قد عرفت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله.إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو من فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ولا تسبي ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي، أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا. ولا يرث قاتل عمدا على حال. وقيل: إن العادل يرث الباغي، قياسا على القصاص.وما استهلكه البغاة والخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤاخذوا به. وقال أبو حنيفة: يضمنون. وللشافعي قولان. وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان فيلزم الضمان.

 والمعول أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ولا قتلوا أسيرا ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة.وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة» ؟ قال: الله ورسوله أعلم. فقال: «لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب طلب هاربها ولا يقسم فيئها» . فأما ما كان قائما رد بعينه.هذا كله فيمن خرج بتأويل يسوغ له. وذكر الزمخشري في تفسيره: إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت بعد الفيئة ما جنت، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن، إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها، فما جنته ضمنته عند الجميع. والعمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم، لما أنجلت الفتنة وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح، لم يعرضوا لأحد منهم في حكم.

لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه. ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار. وقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» . وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا أثمين بالقتال، لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة: «شهيد» . ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار. وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل. بل صواب أراهم الله الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غنائهم في الدين، رضي الله عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون» «البقرة: 141» . وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. قال ابن فورك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة.