حكم طعام أهل الكتاب ( المائدة6

حكم طعام أهل الكتاب

المائدة :6

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

من تفسير الطبري

القول في تأويل قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} يعني جل ثناؤه بقوله: {اليوم أحل لكم الطيبات} اليوم أحل لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم، دون الخبائث منها.قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل، وأنزل عليهم، فدانوا بهما أو بأحدهما {حل لكم} يقول: حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام، فإن من لم يكن منهم ممن أقر بتوحيد الله عز ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرام عليكم ذبائحهم.ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} من أهل الكتاب، فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل، أو ممن دخل في ملتهم فدان دينهم وحرم ما حرموا وحلل ما حللوا منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقرأ هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود} ... إلى قوله: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} ... الآية. عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوجوا من نسائهم، فإن الله قال في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم. وقال آخرون: إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل، من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل، فلم يمن بهذه الآية وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه؛ لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قبل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله  و الصواب من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحته من أي أجناس بني آدم كان.

وأما الطعام الذي قال الله : {وطعام الذين أوتوا الكتاب} فإنه الذبائح. عن مجاهد: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: الذبائح.و عن ابن عباس: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: ذبائحهم. ، عن عمير بن الأسود:. أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجس أهدوه لها، أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوا ! إنهم هم أهل كتاب، طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم. وأمره بأكله. وأما قوله {وطعامكم حل لهم} فإنه يعني: ذبائحكم أيها المؤمنون حل لأهل الكتاب..

القول في تأويل قوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} يعني جل ثناؤه بقوله: {والمحصنات من المؤمنات} أحل لكم أيها المؤمنون المحصنات من المؤمنات وهن الحرائر منهن أن تنكحوهن. {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب، وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهن أيضا.واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خاصة، فاجرة كانت أو عفيفة. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى من أي أجناس كانت، بعد أن تكون كتابية فاجرة كانت أو عفيفة، وحرموا إماء أهل الكتاب أن نتزوجهن بكل حال؛ لأن الله جل ثناؤه شرط من نكاح الإماء الإيمان بقوله: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} ، عن مجاهد: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} قال: من الحرائر. عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة، فأمرت الشفرة على أوداجها، فأدركت، فدووي جرحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونسكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه.

!وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} العفائف من الفريقين، إماء كن أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاح إماء أهل الكتاب الدائنات دينهم بهذه الآية، وحرموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب. عن مجاهد في قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: العفائف. قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة. عن أبي ميسره، قال:. مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} أعام أم خاص؟ فقال بعضهم: هو عام في العفائف منهن، لأن المحصنات العفائف، وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابية حربية كانت أو ذمية. واعتلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وأن المعنى بهن العفائف كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بالمحصنات في هذا الموضع: العفائف.وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} الحرائر منهن، والآية عامة في جميعهن، فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيات كن أو ذميات، من أي أجناس اليهود والنصارى كن وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين. عن ابن عباس، قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا، ثم قرأ: {قاتلوا الذين لا يؤمنون ب الله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية} فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.. وقد دللنا على فساد قول من قال: لا يحل نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين في موضع غير هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذمية كانت أو حربية، بعد أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر، بظاهر قول الله جل وعز: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فأما قول الذي قال: عنى بذلك نساء بني إسرائيل الكتابيات منهن خاصة، فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى.

. {إذا آتيتموهن أجورهن} يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم أجورهن، وهي مهورهن. وأما قوله: {إذا آتيتموهن أجورهن} فإن الأجر: العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر ، عن ابن عباس في قوله: {آتيتموهن أجورهن} يعني مهورهن..

القول في تأويل قوله تعالى: {محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان. ويعني بقوله جل ثناؤه: {محصنين} أعفاء؛ {غير مسافحين} يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة وهو الفجور؛ {ولا متخذي أخدان} يقول: ولا منفردين ببغية واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها. عن ابن عباس، قوله: {محصنين غير مسافحين} يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة، {غير مسافحين} متعالنين بالزنا، {ولا متخذي أخدان} يعني: يسرون بالزنا. عن الحسن، قال: سأله رجل: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات؟ فإن كان لا بد فاعلا، فليعمد إليها حصانا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته..

القول في تأويل قوله عز ذكره: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} يعني بقوله جل ثناؤه: {ومن يكفر بالإيمان} ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به من توحيد الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله، وهو الإيمان الذي قال الله جل ثناؤه: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} يقول: فقد بطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله.وقد ذكر أن قوله: {ومن يكفر بالإيمان} عني به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم تحرجوا نكاح نساء أهل الكتاب لما قيل لهم {أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} عن قتادة، قال: ذكر لنا أن ناسا من المسلمين قالوا: كيف نتزوج نساءهم - يعني نساء أهل الكتاب - وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} فأحل الله تزويجهن على علم.وبنحو {وهو في الآخرة من الخاسرين} يقول: وهو في الآخرة من الهالكين الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد وعملهم بغير طاعة الله.