كمال الدين ( المائدة:من الآية 4

إكمال الدين

 المائدة:من الآية 4

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم

التفسير

من تفسير الطبري تصرفا

قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} .يعني بقوله جل ثناؤه: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود أيها المؤمنون من دينكم، يقول: من دينكم أن تتركوه، فترتدوا عنه راجعين إلى الشرك. عن ابن عباس: قوله: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدا. قيل: ذكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حج النبي صلي الله عليه وسلم حجة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام. ،-. وقال آخرون: ذلك يوم عرفة في يوم جمعة لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ير إلا موحدا ولم ير مشركا؛ حمد الله، فنزل عليه جبريل عليه السلام: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} أن يعودوا كما كانوا.

قوله تعالى: {فلا تخشوهم واخشون} يعني بذلك: فلا تخشوا أيها المؤمنون هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم فيقهروكم ويردوكم عن دينكم، {واخشون} يقول: ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي وتعديتم حدودي، أن أحل بكم عقابي وأنزل بكم عذابي.

 قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حج النبي صلي الله عليه وسلم حجة الوداع. وقالوا: لم ينزل على النبي صلي الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وإن النبي صلي الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة. ، عن ابن عباس، قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام، قال: أخبر الله نبيه صلي الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا..وقال آخرون: معنى ذلك: {اليوم أكملت لكم دينكم} حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجكم مشرك. و عن سعيد بن جبير: {اليوم أكملت لكم دينكم} قال: تمام الحج، ونفي المشركين عن البيت. قال الإمام الطبري :وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم، بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم، لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدي ما ذكرنا عنهما قبل. وروى عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} آخرها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض، كان معلوما أن معنى قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله، أعني: كمال العبادات والأحكام والفرائض.فإن قال قائل: فما حمل قول من قال: قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال: لم ينزل؟ قيل لأن الذي قال لم ينزل، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال: نزل، وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا..

قوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوي وعدوكم من المشركين، ونفيي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم، وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك. عن ابن عباس، قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة، فنفى المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكأن ذلك من تمام النعمة: {وأتممت عليكم نعمتي} عن قتادة، قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} ... الآية، هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجهم عن عامر في هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم، واضمحل الشرك، ولم يطف حول البيت عريان، فأنزل الله : {اليوم أكملت لكم دينكم}

 قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا} يعني بذلك جل ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه {دينا} يعني بذلك: طاعة منكم لي.فإن قال قائل: أو ما كان الله راضيا الإسلام لعباده، إلا يوم أنزل هذه الآية؟ قيل: لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات ومراتبه درجة بعد درجة ومرتبة بعد مرتبة وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية: {ورضيت لكم الإسلام دينا} بالصفة التي هو بها اليوم، والحال التي أنتم عليها اليوم منه {دينا} فالزموه ولا تفارقوه.

قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا. فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين نزلت، وأين رسول اله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت؛ أنزلت يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة و قرأ ابن عباس: {اليوم أكملت لكم دينكم} وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا، فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة..وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده

قوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة} يعني تعالى ذكره بقول: {فمن اضطر} فمن أصابه ضر في مخمصة، يعني في مجاعة، من خمص البطن، وهو اضطماره، وأظنه هو في هذا الموضع معني به اضطماره من الجوع وشدة السغب، عن عباس: {فمن اضطر في مخمصة} يعني في مجاعة.

 قوله تعالى: {غير متجانف لإثم} يعني بذلك جل ثناؤه: {فمن اضطر في مخمصة} إلى أكل ما حرمت عليه منكم أيها المؤمنون من الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية. {غير متجانف لإثم} يقول: لا متجانفا لإثم، وأما المتجانف لإثم، فإنه المتمايل له، المنحرف إليه، وهو في هذا الموضع مراد به المتعمد له القاصد إليه، من جنف القوم علي إذا مالوا،. وأما تجانف أكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين بهذه الآية للإثم في حال أكله، فهو تعمده الأكل لغير دفع الضرورة النازلة به، ولكن لمعصية الله وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.عن ابن عباس، قوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم} يعني: إلى ما حرم مما سمى في صدر هذه الآية: {غير متجانف لإثم} يقول: غير متعمد لإثم. و عن السدي: {غير متجانف لإثم} يقول: غير متعرض لإثم: أي يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله

 قوله تعالى: {فإن الله غفور رحيم} وفي هذا الكلام متروك اكتفي بدلالة ما ذكر عليه منه، وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، {غير متجانف لإثم} فأكله، {فإن الله غفور رحيم} فترك ذكر: "فأكله " . وذكر: "له " ، لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.وأما قوله: {فإن الله غفور رحيم} فإن معناه: فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله في مخمصة، غير متجانف لإثم، غفور رحيم، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه، وعن عقوبته عليه {رحيم} يقول: وهو به رفيق، من رحمته ورفقه به، أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه، من كلب الجوع وضر الحاجة العارضة ببدنه.