مباحث في التقليد

مباحث في التقليد

1. تعريفه

التَّقْلِيدُ هُوَ الْعَمَل بِقَوْل الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ . التقليد قبول القول من غير دليل و الإتباع هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ  ، وَهُوَ فِي الْفِعْل : الإِْتْيَانُ بِالْمِثْل صُورَةً وَصِفَةً ، وَفِي الْقَوْل : الاِمْتِثَال عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْقَوْل
2. مجاله

التقليد في الأصول العامة :الأحكام على ضربين عقلي وشرعي فأما العقلي فلا يجوز فيه التقليد كمعرفة الله سبحانه وصفاته ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأحكام العقلية وحكي أنه يجوز التقليد في أصول الدين وهذا القول ضعيف رد بقول الله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"
فذم قوما اتبعوا آباءهم في الدين فدل على أن ذلك لا يجوز لأن طريق هذه الأحكام العقل والناس كلهم يشتركون في العقل فلا معنى للتقليد فيه.
وأما الشرعي فضربان ضرب يعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلوات الخمس والزكوات وصوم شهر رمضان والحج وتحريم الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز التقليد فيه لأن الناس كلهم يشتركون في إدراكه والعلم به، فلا معنى للتقليد فيه.

التقليد في المسائل الفرعية: الأحكام الشرعية التي لا يعلم إلا بالنظر والاستدلال، كفروع العبادات والمعاملات والفروج والمناكحات وغير ذلك من الأحكام فهذا يسوغ فيه التقليد إن كان ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد جاز وإن كان مما لا يجوز فيه الاجتهاد لم يجز. والدليل على ذلك قوله تعالى "فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"
ولأنه لو منع  التقليد فيه لاحتاج كل أحد أن يتعلم ذلك، وفي إيجاب ذلك قطع عن المعاش وهلاك الحرث والزرع فوجب أن يسقط.
والذي يسوغ له التقليد هو العامي وهو الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية فيجوز له أن يقلد عالما ويعمل بقوله. وقال بعض الناس: لا يجوز حتى يعرف علة الحكم والدليل و الصواب عدم اشتراط ذلك لأنه لو ألزمناه معرفة العلة أدى إلى ما ذكر من الانقطاع عن المعيشة وفي ذلك خراب الدنيا فوجب أن لا يجب.

مسألة
وأما العالم فينظر فيه فإن كان الوقت واسعا عليه يمكنه الاجتهاد لزمه طلب الحكم بالاجتهاد، ومن الناس من قال يجوز له تقليد العالم وهو قول أحمد وإسحاق، وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن يجوز له تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله، ومن الناس من قال إن كان في حادثة نزلت به جاز له أن يقلد ليعمل به، وإن كان في حادثة نزلت بغيره لم يجز أن يقلد ليحكم به أو يفتي به

التلفيق و تتبع الرخص

-التلفيق حقيقته الجمع بين قولين، أو أكثر في أجزاء الحكم الواحد،. و القول الناتج عنه لم يقل به أحد

-الإتيان بكيفية لا يقول بها مجتهد، وذلك بأن يلفِّق في قضية واحدة بين قولين أو أكثر يتولّد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها أحد.

وقد اختلف العلماء في حكمه: فمنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه مطلقًا، والراجح التفصيل في ذلك، وهذا هو الذي أقرَّه مجمع الفقه الإسلامي، وهو جواز التلفيق إلا أنه يكون ممنوعًا في الأحوال التالية:

1ـ إذا أدَّى ذلك إلى الأخذ بالرُّخص الممنوعة، كـ: تلفيق الشاعر "أبو نواس" في أبياته المشهورة، حيث زعم أن الإمام أبا حنيفة النّعمان قد أباح النبيذ، والشافعي قال: النبيذ والخمر شيء واحد، فلفّق من القولين قولاً نتيجته إباحة الخمر

2ـ إذا أدَّى التلفيق إلى نقض حكم الحاكم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.

3ـ إذا أدَّى إلى نقض ما عمل به تقليدًا في واقعة واحدة

4ـ إذا أدَّى إلى مخالفة الإجماع أو ما يستلزمه

5ـ إذا أدَّى إلى حالة مركبة لا يقرُّها أحد من المجتهدين، كمن تزوج امرأة بلا ولي ولا شهود، مقلّدًا الإمام أبا حنيفة في عدم اشتراط الولاية، ومقلّدًا الإمام مالكًا في رواية له في عدم اشتراط الشهادة بذاتها، ويكفي إعلان الزواج.

فهذا الزواج غير صحيح؛ لأنه لا يجيزه الإمام أبو حنيفة ولا الإمام مالك على هذه الصورة الملفّقة؛ لأنه تولّد منه قول آخر مخالف لرأي هؤلاء العلماء على كيفية لا يصححونها، ولا يصح أيضًا؛ لأنه مخالف للأدلة الصحيحة الواردة في هذه المسألة، ولأن الأصل في الأبضاع (الفروج) التحريم، ولا شك أن فيه تلاعبًا بالشريعة وخروجًا عن مقاصدها).

تتبع الرخص

الرُّخْصَة (بإسكان الخاء وضمها) في اللغة، يراد بها: التخفيف والتسهيل والتيسير،

واصطلاحا الرخصة تطلق على أمرين عند الاستعمال بحسب مجالها:

1. الرخصة عند الأصوليين التي تطلق في مقابل العزيمة : هي ما شرعه  الله من الأحكام تخفيفا على المكلف في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، أو هي ما شرع لعذر شاق في حالات خاصة ، أو هي استباحة المحظور بدليل مع قيام دليل الحظر.

وقيل هي: الحكم الشرعي المتغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام سبب الحكم الأصلي و بقائه .هذا المعنى غير مراد به في بحث تتبع الرخص لأنه لا إشكال في الأخذ بها بالمفهوم الأصولي

2. الرخصة الفقهية، وهو المراد هنا، وقد جاء هذا المعنى وفق الاستعمال اللغوي؛ فهي بمعنى التسهيل والتخفيف، وتتبع الرخص هو طلب التخفيف في الأحكام الشرعية.

وقد ذكر جمع من أهل العلم تعريفات لتتبع الرخص، أذكر منها: قول الزركشي بأنه: "اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه"، وقول الجلال المحلي: "أن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل"، وعرّفه المجمع الفقهي بأنه: "ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحا لأمرٍ في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره".

حكم تتبع الرخص

اتفق الفقهاء على أن الانتقال بين الأحكام إذا كان للتلهي فهو حرام قطعًا؛ لأن التلهي حرام بالنصوص القاطعة، وذلك كأن يعمل الحنفي بالشطرنج على رأي الشافعي قصدًا للهوى. وقد نصّ الإمام أحمد وغيره أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبًا أو حرامًا، ثم يعتقده غير واجب أو غير حرام بمجرّد هواه، مثل أن يكون طالبًا لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له، ثم إذا طُلب منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة اتباعًا لقول عالم آخر، فهذا ممنوع من غير خلاف.

وقد اختلف الفقهاء فيما عدا ذلك على أقوال، أشهرها ثلاثة:

القول الأول: منع تتبع الرخص مطلقًا:

 ذهب إليه ابن حزم، والغزالي، والنووي، والسبكي، وابن القيم، و الشاطبي و غيرهم

القول الثاني: جواز تتبع الرخص

والقول بالجواز قال به من الحنفية السرخسي وابن الهمام وابن عبد الشكور وأمير باد شاه

القول الثالث:

 جواز الأخذ بالرخص بشروط

 قال به العز بن عبد لسلام و القرافي. وهو ما أخذ به مجمع الفقه الإسلامي، فقد نصّ على أن الرخص في القضايا العامة تُعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محقّقة لمصلحة معتبرة شرعًا، وصادرة عن اجتهادجماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار، ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية. ونصّوا على أنه لا يجوز الأخذ برخص الفقهاء لمجرد الهوى؛ لأن ذلك يؤدي إلى التحلّل من التكليف، وإنما يجوز الأخذ بالرخص وفق الضوابط الآتية:

أ- أن تكون أقوال الفقهاء التي يُترخّص بها معتبرة شرعًا، ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال.

ب- أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعًا للمشقة، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.

ج- أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك.

د- ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع، وألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع، وأن تطمئن نفس المترخص للأخذ بالرخصة.

أما ابن تيمية فقد قيد الجواز بأن يكون على سبيل اتباع الأرجح بدليله، وفي ذلك يقول: "من التزم مذهبًا معينًا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعًا هواه، وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا المحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر.. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر، وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك".